dimanche 26 février 2012

من ذكريات العلامة عبد العزيز بن عبد الله رحمه الله


التحقت بمدرسة (أبناء الأعيان) في أكتوبر 1932 و لم يكن والدي راضيا بذلك لأن الضغط الاستعماري آنذاك على الأمة لم يكن ليشجع الناس على الثقة بالبرامج الاستعمارية لاسيما و أن مقاومة الشعب المغربي للاحتلال الفرنسي ظلت مستمرة في الكثير من سهول المغرب وجباله وقراه إلى 1936 (راجع كتابنا حول تاريخ المغرب في مجلدين وضعته في قالب صالح للتدريس ألحقت بآخر كل فصل أسئلة لاختبار فهم التلميذ مع تبسيط معالم التاريخ و مقارنتها بمعالم تاريخية خارج المغرب و إدراج معلومات ثقافية واقتصادية واجتماعية وكان كتاب التاريخ هذا معززا بكتاب آخر في جغرافية المغرب محلى بصور ورسوم توضيحية على الطريقة البيداغوجية الحديثة.) ويرجع السبب في هذا الالتحاق إلى عمي عبد الرحمن الذي أقنع والدي بضرورة الاندراج في سلك هذه المدرسة وكان عمي أحمد بنعبدالله  الذي يكبرني بأزيد من عشر سنوات قد التحق قبلي بدافع من أخيه السيد عبد الرحمان أيضا فكنا اثنين نحمل هذه الشارة الجريئة في البيت الواحد.
كان يوما مشهودا بالنسبة إلي تأرجح شعوري الطفولي خلاله بين الدهشة والرهبة من ولوج نوع جديد من البيوت لاسيما و أنني واجهت حياة طريفة لم أعهدها من قبل تتجلى في وفرة المعلمين و معظمهم فرنسيون لا يوجد من بينهم سوى ثلاثة معلمين مغاربة و أحد منهم يعرف بالفقيه الإسماعيلي مدرر كالذي ألفناه نقضي معه ساعة كاملة أول النهار لاستكمال حفظ القرآن الكريم تضاف إلى ساعة قبلها في المسيد تبدأ مع إسفار النهار نواصل خلالها ما اعتدناه في المسيد لاستيعاب ما ينقصنا من حفظ المتون و استذكار ما حفظناه من آيات ولم يكن عمري يزيد آنذاك على تسع سنوات و لكن ما كنت قد استوعبته رغم ضآلته يثير في نفسي اعتزازا و عقدة سمو ما لبثت أن تضاءلت إزاء ما بدأت أتعرف إليه ضمن لغة أجنبية من "معارف جديدة" كانت حصتها من اللغة العربية أقل من ساعة كل يوم و لكن الدراسة كانت حافلة بأشياء زادتها قيمة في نظري.
و ظل هذا الشعور يغامرني طوال خمس سنوات وهي المدة التي قضيتها في السلك الإبتدائي (بين 1932 و 1936) ولعل ما كنت حفظته أو درسته في "المسيد" قد ساعدني على تمثيل واستيعاب المعارف "الجديدة" لاسيما و أنني بدأت منذ إشرافي على نهاية الجولة الابتدائية أقرأ ما كنت أتلقفه من قصص و حكايت باللغة الفرنسية لم تكن تعد و روايات بوليسية مبسطة و لكنها مكنتني من الإطلالة على عالم جديد وكانت البرامج محكمة في السلك الابتدائي بفضل معلمين أجانب أكفياء كانت لهم تجربة لا بأس بها في الحقل البيداغوجي وكان الأمر الذي يدهشني فيهم هو ما امتازوا به من تكوين عام ساعدهم على تعميم المفاهيم و تبسيطها في ذهننا البدائي.
 وختمنا الجولة الابتدائية و كأننا ملكنا الدنيا علما واستقراء على أنني لم أكن في طليعة زملائي الصغار بل كان من بينهم "عباقرة" يفوقونني فهما وإدراكا و مع ذلك كنت أشعر بأنني لم أكن بعيدا عن المستوى المطلوب لتحمل أعباء الجولة الثانوية.
ولم يشغلني كل ذلك عن تتبع المقاومة المسلحة التي استعر أوارها في السهول والأطلس والصحراء من عام 1912 إلى 1936 قبل انبثاق المقاومة السياسية بإشراف الحركة الوطنية عام 1930 إثر صدور
الظهير البربري و قد خصصت لتحليل ذلك صفحات في كتابي عن تاريخ المغرب. أدرجت فيه خاصة الجانب المتعلق بفترة مابين 1912 و 1956 علاوة على القسم الأول من تاريخ المغرب منذ ما قبل الإسلام مع تحليل عن ظهور الإنسان الأول في المغرب.
و في غضون تلك السنة تعرفت إلى صديق عزيز هو السيد أحمد الحسناوي الذي كان نموذجا رغم صغر سنه للمومن الملتزم و للطالب الدءوب على دراسة علوم الآلة و العلوم الإسلامية فكانت فرصة مواتية شجعتني على محاولة التفهم الدقيق لما حفظته من متون في (المسيد) و منذ ذاك لم أتخلف عن الدروس الدينية التي كانت تلقى في مختلف مساجد و جوامع الرباط وكنت أتابع هذه الدروس طبقا للأطوار الثلاثة (الابتدائي و الثانوي و العالي) و قد حضرت فعلا دروس شيخنا الفقيه الحاجي حول (ابن عاشر) في مسجد سيدي قاسم  حيث مدفن جدي سيدي علي  ووالده  سيدي محمد بنعبد الله  كما  كنت أحضر في نفس
المسجد دروس والدي في النحو بالأجرومية ثم انتقلت و معي دائما زميلي الطالب الحسناوي إلى دروس السلك الثانوي في (جامع النخلة) حول (ألفية ابن مالك) و (لامية الافعال) على والدي من جهة و أستاذي محمد العوينة من جهة أخرى و كنت أسكن آنذاك دارا في ملك الأوقاف ، قبالة المسجد الذي كانت مقصورته هي محكمة قاضي الرباط آنذاك العلامة سيدي عبد السلام بنبراهيم وهو آخر قاض عرفناه متمسكا بما عرف به القضاة آنذاك من حسن سمت و وقار مع لبس زي خاص أساسه رداء سابغ و "سلهام".
و كانت دراستي للعلوم الإسلامية لا تتوازى مع دراستي العصرية لأن الأسلاك الدراسية بالمساجد كانت متشابكة يتداخل ابتداؤها مع ثانويها و أحيانا مع عاليها . فكنت أحضر ليلا محاضرات شيخنا العلامة محمد المدني بلحسني في الحديث النبوي معززا هذه الدراسة بدروس إضافية على نفس الشيخ ثلاثة أيام في الأسبوع كل صباح في نفس الجامع الكبير بالرباط حول أصول الفقه من خلال تحليل (جمع الجوامع) لابن السبكي و السيرة النبوية في كتاب (زاد المعاد) لابن القيم و الأدب في (البيان والتبيين) للجاحظ كما درسنا (تحفة ابن عاصم) على شيخنا العلامة السيد عبدالرحمن الشفشاوني و أحيانا على شيخنا العلامة محمد الرندة قاضي الرباط . وكنت أنا و زميلي الحسناوي لا نالو جهدا في مطالعة كتب أخرى في العلوم الإسلامية (كرسالة ابن أبي زيد القيرواني) في الفقه وكذلك في علم المنطق الذي هو أساس لتفهم بعض مبادئ علم الكلام و ننتقل خلال ذلك إلى مصنفات مشهورة في علم التصوف الذي بدأت منذ ذاك انكب على تحليل ما ينطوي عليه من سلبيات و  إيجابيات وهذا النوع من الدراسات هو الذي حداني إلى تصنيف عشرات الكتب في هذا المجال معززا دائما بما حفظته عن ظهر قلب من آلاف الأحاديث النبوية التي كان والدي رحمه الله يذاكرني فيها باستمرار حتى أصبحت جزءا من حياتي و سلوكي في الحياة.  وكان والدي قد التزم بأن لا يذكر لي من الأحاديث إلا ما صح سنده فحفظت عنه المآت بعد المآت مما أتيح لي أن أترجمه بعد ذلك إلى اللغة الفرنسية و تضمينه معظم مصنفاتي بهذه اللغة.
و أذكر أن شغفي بالعلم قد ازداد بعد إنهاء دراستي الابتدائية كما ازداد تطلعي إلى لقاء الأصناف من العلماء و الأدباء و الشعراء و الصوفية من سائر الطبقات فكانت أولى زياراتي و أنا ابن أربع عشرة سنة إلى مراكش حيث التقيت بأول عالم غير رباطي عرفته عن كثب وهو الأستاذ الكبير المختار السوسي الذي استمرت علاقتي به عقودا من السنين مع عالم آخر من سلا و هو الأستاذ محمد التطواني حتى أصبحنا نعرف بالثالوث الذي لا يكاد يفترق كما عرفني الشيخ المختار بعالم آخر هو الشيخ العلامة عباس ابن ابراهيم التعارجي فأطلعني على خزانته الخاصة وسمح لي بانتقاء ما أريد منها و كنت قد بدأت أنظم الشعر فأعجب بذلك صديقي العلامة المختار السوسي كشاعر فذ كان ضليعا في هذا المجال . و قد تعرفت بمراكش أيضا بعد الرباط على قادة وطنيين أمثال عبد الله إبراهيم وعبد القادر حسن و على شيوخ صوفية كالشيخ الوقور محمد النظيفي و كانت هوايتي آنذاك ثلاثية أيضا هي التعرف على كل ما هو جديد فكانت لا تفوتني الأفلام العلمية و الاجتماعية في دور السينما و لا الروايات البوليسية بالإضافة إلى مجالسة العلماء و الأدباء ورموز الطرق الصوفية الذين كانوا يترددون على منزل والدي من مختلف مدن المغرب فأحظى بالاستفادة من الجميع.
و في مايه 1936 انقطعت لفترة عن باقي الدراسات الإسلامية وودعت (المسيد) و مدرره معلمي الأول الذي لم أنس قط أن كل الفضل كان له في تربيتي و تأثيل شخصيتي ببادرات الأسيسة الأولية في تكويني الخلقي والديني و لكن عهدا طريفا انفتح أمامي يقتضي مني برمجة جديدة في حياتي الدراسية فككفت موقتا عن كل نشاط معرفي عدا الانكباب على استذكار دروسي استعدادا لامتحان أواجه فيه أول شهادة في حياتي و هنا كرست باقي أيام (يونيه) بين المراجعة و الاسترواح أقضي ساعات في ظل أشجار (حديقة الأوداية) للتملي بعطر زهورها و ورودها بين ثلة من رفاقي في المدرسة فكان النجاح لمعظمنا بامتياز و بدأنا منذ ذاك ننظر بلهف و تخوف إلى الغد القريب الذي سيصلنا بمعارف على مستوى أعلى مما عرفناه فكان صيف تلك السنة من صنف جديد لأننا سننتقل بعده من طفولة بريئة إلى شبه مراهقة يانعة.
كان أعمامي قد اضطروا في هذه الفترة إلى بيع دار سكناهم في البحيرة لأداء ديون تركها والدهم المرحوم السيد علي رغم مكثه سنوات في منصب الأمانة في ديوانة بعض المدن لنزاهته و تقواه فتفرقت الأسرة وانتقل والدي إلى سكنى بيت كان جزء منه في ملك والدتي أمام الزاوية المعطوية التي كانت كتابا للفقيه الصديق الشدادي ما لبثت أن أصبحت نواة لمدارس محمد الخامس التي بنيت أمام الجامع الأعظم قرب باب شالة ولم يطل مكثنا في هذه الدار لأن أحد كبار المسئولين في الإقامة العامة الفرنسية و هو مدير الشؤون التشريعية المشرف على المراقبين المدنيين الذين كانوا على رأس كل هيئة مخزنية من محاكم و إدارات و غيرها قد اكترى الدار رغبة منه في الإمعان في التحسس والاندماج في الأحياء الأهلية و هنا انتقلنا إلى منزل حبسي في (حي بوقرون) أمام مقصورة قاضي الرباط السيد عبدالسلام ابن ابراهيم و اضطر والدي إلى ممارسة العدالة لكسب عيشه  في دكان مع عدل آخر هو شيخ جماعة علماء الرباط محمد بلعياشي وكان لمعظم العدول دكاكين يقضون بعض أوقاتهم للإشهاد و تحرير العقود و من الصدف أن دكانهم كان أمام زنقة سيدي يوسف حيث كان يسكن الأمير مولاي يوسف قبل أن يعتلي العرش و إزاءه دكان والد الشاب المهدي بن بركة و كان فقيرا مدقعا يبيع القمح و السميد ليعول أسرة في ضمنها ولده المهدي الذي كان قد حصل على شهادة الباكالوريا في نفس السنة التي أنهيت فيها دراستي الابتدائية (و كان للمهدي أخ آخر سبقه في الدراسة مات قبل أن يكملها ) و كان على بضعة أمتار دكان زوج أختي (حبيبة) السيد امحمد بنموسى الذي ظل يبيع الأنسجة والأثواب إلى آخر حياته وقد فقد والدي عام 1938 أخاه السيد محمد الذي مات مسلولا لإدمانه على الدخان فحزن عليه لأنه كان كثير الحب و العطف عليه لوداعته و استقامته و ما لبث والدي أن عين بالتفاتة من المدير الفرنسي الذي اكترى منه الدار كاتبا في إدارته داخل المشور في الموقع الذي توجد فيه وزارة الدفاع و كان في الإدارة آنذاك كتاب آخرون و مترجمون من بينهم السيدان حدو الشيكر و عبدالجليل القباج . وما لبث والدي أن عين عضوا في (مجلس الاستيناف الشرعي) بالمشور الذي أداره في البداية الشيخ محمد بن العربي العلوي ثم الشيخ محمد المدني بلحسني.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire