dimanche 26 février 2012

قصبة الرباط الأثرية ماضيها وحاضرها لمؤرخ الرباط محمد بوجندار

        
        قصبة الرباط الأثرية هي القصبة القديمة الموحّدية، المعروفة اليوم بقصبة »لودَاية«.
        وبنايتها أول بناية تُعرف بالرباط، بعد بنايات »شالة« العتيقة. فلذا كان لها من الأهمية التاريخية، في نظر المؤرخ الأثري، ما يدعو للبحث عن حالها الماضي لَمّا كانت دارَ ملك، يتغنّى بمجدها الشاعر، وحالها الحاضر، لـمَّا صارت صورةَ صفحة ريشة الرسام، وعِبْرَة الناظر. إن لم نقل صارت كعبة حجّ السائح الأجنبي المتأمل في مجدها الغابر، وفعل الدهر الغادر.
        يرى الناظر القصبة، فيرى فيها أثراً مجيداً، وشرفاً أثيلاً ساطعاً، كالغرّة في جبين مدينة الرباط المثرية من آثار الصناعة العربية الموحّدية. تلك الآثار التي لم تزل في كل من العَدْوتين، المغرب والأندلس، ماثلةً شاخصة للعيان، شاهدة بما كان لدولة الموحدين من العناية بمظاهر الرفاهية والعرفان، والحضارة والعمران.
        كيف، وهي الدولة الوحيدة التي يرجع لعهدها تاريخ التمدن العربي في المغرب، بفضل ما أسّسته فيه من دعائم التمدين، وشيّدته من صروح المدنية الإسلامية، قبلَ دولة بن مرين، كما تنطق بذلك معالمها ومصانعها التي تحَلَّى منها جِيد الرباط بعقد ثمين.
        إذاً لا نكيرَ على الرباط إذا دبّت في عِطْفه نشوة الإعجاب بتلك المعالم والمصانع. فقام يجرّ ذيله مفتخراً كلما افتخرت فتاة بأبيها، أو أمة بماضيها. كما لا نكير على كل رباطي، سيَّما طالب التاريخ، إذا دفعته غَيْرته الوطنية، وأريحيَّته التاريخية، للوقوف ولو برهة ما وقوف البطل الروائيّ في بساط مرسح([1][13]) عام كهذا ("السعادة")([2][14])، مردداً نغمة التنويه والتمجيد لتلك الآثار، ممثلاً فوق ذلك البساط أهمَّ ما أدَّته في التاريخ من الأدوار.
        وهذا ما سأقوم به ـ إن شاء الله ـ في سلسلة مقالات، متتابعة الحلقات، حرّرتها حول قصبة الرباط الأثرية، نظير ما كنت حرّرته نحو مدينة شالة الأزلية، في رسالتي المطبوعة تحت عنوان "شالة وآثارها". تلك الرسالة التي أبى الله إلا أن يُتِمّ نورَها.
        أما موادّ كتابتي، فالتاريخ الصادق، والنقل الموافق، من تواريخ للعرب والإفرنج ممن سنصرّح باسمهم، عند النقل عن كتبهم، جرياً على عادتنا في نسبة الفوائد لأهلها، ولو كانوا في العلم صغاراً، أداء لواجب أمانة التأليف. ومن بركة العلم عَزْوُه لقائله.
القصبة في عهدها الأول
        يرى بعض مؤرخي الإفرنج، ممن علّقوا على تاريخ ليون الأفريقي، أن القصبة في عهدها الأول كانت حصناً حصيناً، بناه الرومان لغرض الدفاع عن مدينة شالة العتيقة. وهذا، إن صحّ، دليل على تاريخ القصبة في القديم. وربما يؤيده ما جاء في جغرافية تيسو، صحيفة 233، من أن ما وُجِدَ من قديم الآثار بموضع الرباط يدل على أن بنايات شالة كانت تمتد إلى قصبة »لوداية« وفم الوادي.
        أما مؤرخو الإسلام، فغاية ما جاء عندهم، في تاريخ القصبة لعهدها الأول، أنها كانت قبل بنائها من جملة بقعة الرباط عبارة عن رباط، يرابط فيه المسلمون بقصد الجهاد والغزو ضد البرغواطيين. قال ابن حوقل: »وربما اجتمع في هذا المكان من المرابطين مائة ألف إنسان، يزيدون وينقصون«.
القصبة في عهد اللَّمتونيين
        ثبت أن القصبة في عهد دولة المرابطين اللمتونيين، أي في عهدها الثاني، قبل أن تصير في شكلها الحاضر، كانت قصبة صغيرة تُعْزى لبني تِرْغي، رهطٍ من صَنْهاجة. وهل هي من بناء تاشفين بن علي آخر ملوك المرابطين، أو جَدّه يوسفَ بن تاشفين، خلاف بين  ما جاء في مجلة "البعثة العلمية الفرنسوية" وبين ما جاء في كتاب "الحُلل المَوْشيّة في ذكر الأخبار المراكشية" المنسوب لابن الخطيب، على ما في تلك النسبة.
قصبة الرباط الأثرية في عهد الموحدين
        هذا هو العهد الذي ظهرت به القصبة في شكلها الحاضر. وأدركت فيه ما أدركته من المجد الغابر، بما أحرزته في ذلك الأوان، من المزايا التي تتفاضل بها البلدان، كعِزّ المنعة والشنعة، وحسن الصنعة والبقعة، ونضارة المساكن، وحضارة الساكن، إلى غير ذلك مما صارت به القصبة أجدرَ بقول ابن الخطيب في وصف مثلها: بأنها اقتعدت فم الوادي كرسيّاً، ورفعها الله مكاناً عَلِيّاً. وقُرّبت أبراجها، وصُوعِدت أدراجها. وحُصّنت أبوابها، وعُزّز جنابها. ودار ببلدها السور والجسور، والخندق المحفور.
        على أن بناءها لم يكن له شكل مستقيم. فليست مثلثة ولا مربعة. وإنما بنيت على الصخور البحرية، بحسب الهندسة الطبيعية التي يقتضيها الموقع الجغرافي للمصبّ.
        وكان عبد المؤمن، أولُ ملوك الموحدين، هو أول من اتخذها داراً. وجعلها لِتَخْت ملكه قراراً. فاختط بقعتها. وأدار أسوارها. وفتح أبوابها. وأسس مدرستها. وشيد منارها. وبنى مسجدها الجامع. وأجرى إليها الماء في قنوات ممدودة إلى صهاريجها، من نحو عشرين ميلاً، كما في "الاستبصار". وكان ذلك بعد رجوعه من فتح فاس سنة 540 هـ.
        وأول ما بناه فيها قصره الفخيم. ثم ساباطه العظيم، المشار إليه في "مقامة البلدان". جعله ديواناً يجتمع فيه الوزراء والأعلام، وإيواناً يأوي إليه حَمَلة السيوف والأقلام.
        ثم ندب خاصَّته للبناء حول قصره الفاره. فتسابقوا لإقامة المنازل، وتشييد المنازه. وهي التي تسمى بقصور السادة، في كلام بعض الؤرخين. وكان منها ما بُني في الموضع المعروف باسم القصور في الرباط، حيث الإقامة العامة. بقي هذا الاسم عالقاً من عهد الدولة الموحدية، حسبما يوجد في الرسوم الأصلية.
        ولم يزل عبد الؤمن صارفاً وجه العناية نحو بناء القصبة، على الشكل الذي وصفنا إلى أن تمّت. وصارت في حكم المدينة. [و] سماها المهديّةَ. كان ينزلها كلما قدم إلى سَلا، أو أراد إبرام أمر، أو تجهيز جيش، كما أشار لهذا في "معجم البلدان" لياقوت و"تقويم البلدان" لأبي الفداء. وعبارة الأول:

وفي غربي هذا النهر، يعني نهر أبي رقراق، اختط عبد المؤمن مدينة، وسماها المهدية. كان ينزلها إذا أراد إبرام أمر، أو تجهيز جيش.
وعبارة الثاني:
              بنى عبد المؤمن أمام سَلا، من الشط الجنوبي، على النهر والبحر المحيط، قصراً عظيماً. واختط خاصّتُه حوله المنازل. فصار مدينة، سماها المهدية.
        والسبب في تسميتها بالمهدية ـ على ما يظهر ـ ما أرشد إليه صاحب كتاب "المعجب" من أن المهديّ بن تومرت هو الذي أمر الموحدين بالبناء على ساحل البحر المحيط حيث القصبة والرباط. وأشار لهم بأنه بذلك يفتح الله عليهم، ويجمع كلمتهم. فلما أحدثوا القصبة، سمّوْها المهدية تَذْكاراً لاسم المهديّ بن تومرت المشير عليهم بهذا البناء.
        ولما أتمّوا بعد ذلك بناء الرباط، سمَّوْه رباطَ الفتح تحقيقاً لما أشار إليه المهدي المذكور، وتَذْكاراً أيضاً للفتح الأندلسيّ الذي بنى الرباط من غنائمه.
        وبعد كَتْبي لهذا، وقفت على نص صريح في هذا المعنى جاء في كتاب "المشترك وضعاً والمفترق صُقْعاً" لياقوت الحموي. ولفظه:
              والمهدية أيضاً مدينة قربَ سَلا في أقصى المغرب. اختطها عبد المؤمن بن علي. ونسبها إلى المهدي بن تومرت، صاحبِه القائم بالأمر هناك.
ملاحظة
        هنا توهّم البعض من مؤرخي الإفرنج أن تسمية القصبة بالمهدية وقع فيه التباس بمهديّة معمورة، لأنها التي تسمّى بذلك. وهو وَهْم (بالسكون) لا يخلو من وَهَم (بالفتح). نشأ من عدم العلم بما قلناه ونقلناه، ومن عدم العلم أيضاً بأن مهديّة معمورة لم تكن تعرف بهذا الاسم. وإنما كانت تسمى في القديم بحَلْق الوادي، وبمعمورة فقط. إلى أن هدى الله من فيها إلى اتباع الراية الإسلامية، سنة اثنتين وتسعين وألف، على يد فاتحها السلطان المقدس مولاي إسماعيل. فسمّاها بالمهدية لذلك.
        وقيل: إنه لما حاصرها، وضيّق على جيش الإسبان الذي كان بها منذ سبعين سنة، خرج إليه راهبها أو قائد جيشها في ثلاثمائة وستة أنفس مستسلماً. وبيده مفاتيح المدينة، جاء بها هدية للسلطان برهاناً على استسلامه. فأمّنه السلطان، وقبل هديته. ثم دخل المدينة، وسمّاها بالمهدية لذلك.

ولا منافاةَ بين الملّتين


فإن النكات لا تتزاحم


        أما قصبة الرباط، فتسميتها بذلك قديمة، من لدن تأسيسها كما علمتَ آنفاً. ثم تُنوسي اسمها القديم. وبقيت تعرف باسم القصبة، مضافةً تارة إلى سَلا، قبل بناء الرباط، وتارة إلى الرباط بعد بنائه. إلى أن سكن بها جيش لوداية، فصارت تُنْسب إليهم. وتعرف بقصبة لوداية ما يأتي.
الغرض من تأسيس القصبة
        الغرض من تأسيس القصبة، واتخاذِ الموحّدين لها داراً لملكهم، ومرسىً لِفُلْكهم، هو صلاحية أرضها للرباط وحشد الجنود، نظراً لأهمية موقعها الجغرافي. وهو كونها على الشاطئ، قريبةً من بوغاز جبل طارق، وفي نقطة الوسط بين فاسَ ومراكش، وعلى مقطع الطرق لبلاد المغرب الجنوبية والشمالية، التي يقطعها وادي أبي رقراق، زيادة عن كونها في أرض غنية خصبة، زكية التربة، تساعد على تموين الجنود، وتجهيز الجيوش، إلى غير ذلك مما امتازت به عن مدينة سبتة. حتى سلبتها أهميتها العسكرية، بعدما كان الموحدون يريدون جعلَها المركز الحربي الذي تؤمّه الجيوش، وتربط به العساكر، للذهاب منه إلى بلاد الأندلس المحتلة، برسم الجهاد والفتح ومحاربة الإسبان.
        ومما يدل على الغرض المقصود للموحدين من تأسيس القصبة ما هو مكتوب على بابي الساباط من الآيات القرآنية المؤذنة بالجهاد والفتح، كآية {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً}([3][15])، إلى قوله: {وكان الله عليماً حكيماً}([4][16]). كذا على باب القصبة القِبْلي مكتوب بالخط الكوفي. وكتب على بابها الشرقي {يا أيها الذين آمنوا، هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله}([5][17])، إلى قوله: {وبَشِّرِ المؤمنين}([6][18]).
القصبة في عهد بني مرين
        لما دالت الدولة لبني مرين، بقيت القصبة هي القصبة، معدودةً في نظر ملوكها خيرَ عُدَّة للطوارئ والطوارق. ولا سيما في عهد المنصور بالله يعقوبَ بن عبد الحق. فقد كانت في أيامه أعظم نقطة حربية، تغادرها الجنود، وترجع إليها منصورةَ البنود.
        واستمرت مدة عشر سنينَ، من سنة أربع وسبعين وستمائة إلى سنة أربع وثمانين، تُمِدّ قصرَ المجَاز والجزيرةَ الخضراء بِعَدَدِها وعُدَدِها، إلى أن أتمّ المنصور مهمته من بلاد الأندلس، بقهر العدو وتدمير قراره([7][19]) واكتساح ماله وتخريب معاقله وانتساف قواه.       


القصبة في عهد السعديين
        لما جاءت هذه الدولة، لم يكن بيت القصيد عندها من عدوة الرباط سوى حَلْق الوادي، وجَعْلِه من أهم مراسيها للمصادر والموارد. وبذلك فقدت القصبة أهميتها التي كانت لها أيام الدولتين الموحّدية والمرينية. ولكنها ما لبثت بفضل موقعها أن استرجعت أهميتها، بعد أفول شمس الدولة الذهبية، دولةِ أبي العباس المنصور السعدي المعروف بالذهبي.
        وذلك عندما قدمت جاليات الأندلس على ولده زيدان، فاتخذ منهم جيشاً جَرّاراً، جعل فرقةً منه بالرباط لتحسينه وتحصينه، وأخرى بالقصبة لحراستها، وحمايةِ العدوتين من القائم عليه عبدِ الله بن الشيخ السعدي. ثم رتِّب في القصبة عاملاً من قِبَله يُعْرَف بالزعروري. وبسب هذا العامل وقع ما وقع من النَّفْرة بين أهل الأندلس والسلطان زيدان، إلى أن كان من أمرهم ما كان. وإليك البيانَ.
        جاء في التاريخ أن السلطان زيدانَ بعث مرة للقائد الزعروري أن يجهّز إلى درعة أربعمائةٍ من الأندلسيين أهل القصبة. فجهّزهم إليها، وطالت غيبتهم بها، إلى أن فرّ أكثرهم، ونفرت قلوبهم عن الزعروري وسلطانه. فكان زيدان يبعث إليهم بتجديد البعث إلى درعة، فيأبَوْن الانقياد إليه في ذلك، وكرهوه، وأزمعوا على خلع طاعته، ثم وَشَوْا إليه بقائده الزعروري. فبعث زيدانُ بالقبض عليه. فقُبِض عليه، ونهب أهلِ الأندلس داره، وكتبوا إلى السلطان بذلك، مظهرين طاعته مكيدةً ونفاقاً.
        فبعث إليهم مولاه وقائده المملوك عجيبا. فمكث بين أظهرهم مدة، فلم يعبأُوا به، وصاروا يهزأون به، ثم عَدَوْا عليه، فقتلوه، وتولّوا الحكمَ على أنفسهم باتخاذ عامل من بين أشياخهم، جعلوه تحت إشراف مجلس نيابي لمدة معيَّنة، ثم يجدّدونه بطريق الانتخاب، كما كانت عادتهم بالأندلس حين استولى عليهم العدو. وبَقُوا منعزلين عنه أياماً، قبل هجرتهم للمغرب.
        ثم استفحل أمرهم لما تلاشت سلطة السلطان زيدان، وأعياه أمر المغرب فأعرض عنه، وصرف عنايته إلى ضبط ما خلْفَ وادي أمّ الربيع، إلى مراكش وأعمالها، إلى أن توفي. وتوارث بنوه من بعده سلطنته على ذلك النحو.
        وبقي عبد الله بن الشيخ السعديُّ يقطع الأيام بفاسَ إلى أن توفي. وقام بأمر فاسَ من بعده ثوَّارها وسُيّابها.
        وبقي المجاهد أبو عبد الله العيّاشي قائماً بأمر سلا وأعمالها، ما عدا الرباط والقصبة اللتين كانتا تحت حكم الأندلسيين الذين تمَّ لهم، بفضل استعدادهم ومعارفهم، القبض على زمام استقلالهم مدة مديدة، تناهز الثلاثين سنة، رغماً عما كان للعيّاشي من التشوّف للاستيلاء عليهم، إلى أن توفي العياشي، وبقيت سلا بيد رؤسائها كالرباط والقصبة.
        وهذا هو التاريخ الذي كان الحكم في العدوتين معاً »جمهوريّاً«، بحيث لم يكن جنوحهما للمخزن سوى صورة فقط ([8][20]). وصار الأوربيون أنفسهم لا يعتبرون من مملكة المغرب سوى مقاطعة سلا. وكم لهم مع رؤساء العدوتين من معاملات تجارية ومعاهدات سياسية ما زال التاريخ يحفظها.
        وقفتُ على بعضها بإمضاء أربعة من رؤساء سَلا والرباط، وهم: عامر بن محمد، وأبو الطيب بن عبد الرحمن عبدون، والحاج يوسف السنسياض، والأمين سعيد أجنوي. وذلك بتاريخ ثامن رجب عام ثلاثة وخمسين وألف. كما وقفتُ على معاهدة أخرى بتاريخ ألف وستين (1060 هـ). وعليها إمضاء المذكورين، ما عدا إمضاء عامر بن محمد. ثم زيادة إمضاء عبد الله القصري، ومحمد بن عمرو، والحاج محمد فنيش، والحاج إبراهيم معنينو، وإبراهيم الدك، وأبو عزة بن محمد بن طلحة، والحاج محمد الزبدي.
        وكان عثوري على هاتين المعاهدتين بإيقاف من جناب العالم المستعرب المستشرق الأثري المسيو دوكاستري. ثم رأيت له في تاريخه الموضوع في أصول التاريخ المغربي جملةَ رسائلَ أخرى من هذا القبيل، منهاما هو مأخوذ بالفوتوغراف، ومنها ما هو مشار إليه فقط.
        وقد تنزّل في تاريخه المذكور إلى شرح الحالة التي كان عليها أهل سلا وأهل الأندلس في عهد استقلالهم و»جمهوريتهم«. فصرّح بأن أسطولهم في ذلك الوقت كان يسطو على أساطيل البحار، وقرصانهم كان الحكم العدل في تلك الأعصار، وأن القوة البحرية السلوية التي أنشأها الأندلسيون كانت أشدّ تأثيراً على أوربا من القوة البحرية الجزائرية التي كانت للأتراك بالجزائر. قال: لأن المراكب الشراعية الأندلسية كانت أكثر عدداً، وأوفر مدداً، وكان بحّارتها وعساكرها أشدّ جرأة، وأزيدَ خبرة بالمراوغة البحرية، وبفنون الملاحة والرماية.
        ثم عرّج المؤرخ في كتابه المذكور على ذكر الوقائع البحرية التي كان يقوم بها الأندلسيون الغزاة، المعروفون عند الإفرنج باسم »لصوص البحر«، أو »لصوص سلا«. فذكر أن هؤلاء »اللصوص« هم من أهل الأندلس ساكني القصبة. وذلك أنهم لما استقلوا بأنفسهم، وأنشأوا أسطولهم، صرفوا عزمهم إلى التضييق على أهل أوربا، وشنّ الغارات عليهم.
        أما الأوربيون، فقد حسبوا لذلك ألف حساب، وكثيراً ما حاولوا سدّ البواغيز في وجوه أولئك الغزاة. فلم ينجحوا، واضطروا لإيفاد الرسل من قِبَلهم، لتقرير أسباب الهدنة والصلح، وافتداء الأسارى منهم بالأموال والمدافع وغيرها، مما زاد في طينتهم بَلّة، حتى صاروا أصحاب ثروة طائلة وقوة هائلة. وكان لهم بالقرب من جامع حسّان معمل خاص لصنع المراكب القرصانية والآلات الحربية، وكانت هولاندة ـ الدولة البحرية في ذلك الوقت ـ تساعدهم كثيراً بما يحتاجونه من آلات وأدوات وعَمَلَة وصنّاع.
        ولم يكن استعدادهم أوّلَ الأمر إلا من أجل شنّ الغارة على إسبانيا عدوتهم. وكم حملوا عليها من حملات شعواء، أقلت راحتها، وأقامت نِياحتها. ولكنهم ما وقفوا عندها، بل جاوزوها إلى كثير من بلاد أوربا. فغنموا من المراكب والسفن البحرية ما تجاوز المِئِينَ، ومن الأسارى والسبايا ما قُدِّر بالآلاف، ومن النقود الذهبية ما عُدّ بالملايين، بل صرّح المسيو دوكاستري بأنه من عام 1618 إلى عام 1626 مسيحيّ أسروا من الفرنج ستة آلاف نسمة، وأخذوا من الأموال خمسةَ عشرَ مليوناً ليبره. ومن عام 1629 إلى عام 1639 أخذوا نحو السبعة والعشرين مليوناً دوكا، وغنموا في مدة عامين فقط أربعين مركباً، كانت بسواحل أوربا تصطاد الحوت، إلى غير هذا مما ألَمّ بذكره في شرح »لصوصيتهم« ووقائعهم الخارجية.
        ثم تنزّل بعد ذلك لذكر الوقائع الداخلية التي كانت تقع تارة بين أهل القصبة وأهل الرباط، وتارة بينهم وبين العيّاشي أمير سلا. وذلك ما أتينا على ذكره في غير هذه الكتابة الموجزة. ومنه تعلم أن القصبة كانت أحياناً مستقلة بنفسها تماماً، حتى عن الرباط، وأياماً محالفة ([9][21]) للرباط ضد العياشي، وآونة محالفة(21) لسلا ضد الرباطيين، وأوقاتاً كانت من جهة المخزن، تابعة للأشراف السعديين، أو السادة الدِّلائيين.
القصبة في عهد الدِّلائيين
        رأيت أن أقتصر في هذا الفصل على ما جاء في رحلة »مويط« الفرنسي الأسير بسلا عام 1670 م. فقد ذكر في الفصل الثاني، عند كلامه على مدينة الرباط، ما وقفت على ترجمته بقلم صديقنا النابغة الجعفري الشريف السيد محمد الناصري السلاوي، حفظه الله. وإليك ذلك.
        وقال صاحب الرحلة:
        وقد كانت هذه المدينة ـ يعني الرباط ـ »جمهورية« مستقلة سنينَ عديدة. وذلك منذ طرد ملك الإسبان لجالية الأندلس من غرناطة، بسبب ما أثاروه من الفتَن عليه. ولما وصلوا إلى سلا عقب تلك الفتن، وكانوا يريدون أن يعيشوا أحراراً مستقلين، ورأوا أنفسهم أكثر عدداً وأشدّ قوة من سكان سلا الأصليين، أرغموهم على عدم الاعتراف بأي سلطان كان، وخلع طاعة الملوك الوقتيين([10][22])، كابن أبي بكر الدِّلائي الذي كان دخل إلى بلادهم، ووعدوه ببيعته، فحاصروا ابنه عبد الله أميرَ القصبة. ومع أن عمره إذ ذاك لم يتجاوز 15 عاماً، فقد قام بالدفاع أحسن قيام، مظهراً للشجاعة والشهامة بضع سنوات.
        وكان يعينه على ذلك ملك البرتغال، والدُّوك مديناكلي سينْيور دو بور سانطْ مَرِي قرب قادس، ويمدّانه بالميرة والسلاح، ويبعثان إليه بالسفن المشحونة بالذخائر الحربية والأقوات، لأن أباه ابن أبي بكر كان قد وجّه سفراءه إلى إسبانيا والبرتغال مستنجداً بهما.
        وحيث كان مدخل الوادي ممنوعاً على أهل سلا، بسبب إشراف القصبة المحاصَرة عليه، وكان أهل البادية يعادونهم، حصلت الشدة في المعيشة، وقلّت الأقوات لديهم، فجلب إليهم عدد من التجار المسيحيين سفناً مشحونة بالقمح، وأنزلوها على الساحل الكائن ما بين المعمورة وسلا. فربحوا بذلك أموالاً طائلة، لأن الأندلسيين المهاجرين كانوا يشترون القوت منهم بما جلبوه من الحُلِيّ والجواهر التي جاءُوا بها من الأندلس، فاستولوا على ثروتهم بسبب ذلك.
        ولما اشتد الحصار على الأمير عبد الله، طلب المخابرة مع رئيس سفينة أنجليزية وردت إلى أمام القصبة، ووعده بتسليمها له بشرط أن يدفع ملك أنجلترا لأبيه ألف قِنْطار من البارود، مع ألف مُكْحُلة ([11][23]). فقبل الرئيس الأنجليزي المذكور، ونزل إلى القصبة مع مائتين من بحّارته، وعزم على تركهم هناك محتلين لها، ويبقى معهم حتى يوجّه إلى أنجلترا سفيراً يتذاكر مع حكومته في ما راج بينه وبين الأمير عبد الله.
        فأقام بالقصبة من الأربعة إلى الخمسة أيام، ولكنه لم يجد ما يقتات به هو ومن معه فيها مدة انتظاره لرد الجواب من حكومته. فقال حينئذ للأمير عبد الله إنه سيتوجّه بنفسه، ويتذاكر مع ملك أنجلترا في ما طلب منه.
        ولما ركب البحر ورجع إلى سفينته بمن معه، ضيّق الأندلسيون على الأمير، وأخذوا بمُخَنَّقه، وألزموه الخروج من القصبة والتخلي عنها. وإن لم يرحل عنها، أوقدوا لغماً كانوا قد حفروه له تحت القصبة، وهدموها عليه. وكان الذي صنع اللغم المذكور أسير طُلْياني، بعدما  لَيّن الصخور بصبّ الخل عليها. وأتقن ذلك غاية الإتقان، لأن أهل الأندلس وعدوه بإطلاق سراحه إن نجح في عمله.
        فلما بلغ الأمير عبد الله ذلك، وجّه رجلين من خاصّته ليشاهدا اللغم المذكور، ويخبراه بكيفيته. فرجعا إليه، وأعلماه بأنه إن لم يبادر بالتسليم سقطت القصبة عليه، وهلك هو ومن معه. فتخابر حينئذ مع الأندلسيين، وتصالح معهم، وقبلوا مطالبه التي منها تسليم الطلياني صانع اللغم إليه، فقتله شر قتلة.
        ولما خرج من القصبة، عقد الأندلسيون مؤتمراً للمذاكرة في مصالحهم، وكان أهل الحلّ والعقد منهم حينئذ من نقلت إلينا أسماؤهم، وهم الحاج عبد الله فنيش، أحمد سنتياك، وهما الرئيسان، ومرينو، وسكورطوس، والزهرا، وابن طوجا، والزبدي، والتونسي، والقرطبي، وبلانسيانو، وبلانكو، ومنينش. وجمع وافر لم نذكر أسماءهم، والكل من أعيان ووجوه العدوتين.
        فاقتضى نظرهم جميعاً أن يحفروا خندقاً حول القصبة تحصيناً لها. وقدّروا لذلك نفقة، وتذاكروا في كيفية إجراء الأشغال، وعجّلوا بتنفيذ ذلك، فكان يعمل في ذلك الخندق كل يوم ما يزيد على 500 رجل، واستمر العمل فيه مدة أشهر. ولكن صعب الأمر من الجهة القريبة من البحر، لأنهم أجبروا على نحت الصخور، وصرف الوقت في معالجة هذا العمل الشاق. وقصّرت بهم النفقة، فأمسكوا عن العمل.
        وقد وقفت على أثر هذا الخندق، ورأيته غير تام.
        وبقيت الحكومة »الجمهورية« على ما ذكرنا إلى أول خلافة مولاي الرشيد.


حقق هذه الرسالة الدكتور عزة حسن
([1][13])       استعمل هذه الكلمة في معنى كلمة »مسرح«.
([2][14])       يريد جريدة "السعادة" التي نشرت فيها هذه الرسالة، على شكل مقالات متتالية، في غالب الظن.
([3][15])       سورة الفتح، 48/ 1.
([4][16])       سورة الفتح، 48/ 4.
([5][17])       سورة الصفّ، 61/10 ـ 11.
([6][18])       سورة الصفّ، 61/ 13.
([7][19])       في الأًصل المخطوط: قرره. وهو غلط من زلة القلم. والقرار بمعنى المُسَتَقَرّ.
([8][20])       ينظر تفاصيل مهمة في هذه المسألة في مقال الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله، » حاضرة الرباط والتطور الحضاري في مصب أبي رقراق«، في مجلة التاريخ العربي، العدد السابع عشر، شتاء 1421 هـ/ 2001 م.
([9][21])       في الأصل المخطوط: مخالفة.
([10][22])       في الأصل المخطوط: الموقتين. وكتب في الهامش: الوقتيين.
([11][23])       المكحلة: هي البندقية من السلاح.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire