dimanche 26 février 2012

بين الفصحى والعامية للفقيه محمد داود

اللسان العربي، ونعني به اللغة العربية، ينقسم إلى قسمين: فصحى وعامية. وهذه هي التي يسميها بعضهم بالدارجة.
وإذا أردنا زيادة التحقيق نقول: إن اللغة العربية التي يتكلم بها العرب والمستعربون في عصرنا هذا، تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العربية الفصحى.
الثاني: العربية العامية المثقفة.
الثالث: العربية العامية الدارجة.
فالقسم الأول-العربية الفصحى- هي التي يحافظ فيها على القواعد المحددة في علوم النحو والصرف والبلاغة، وهي لغة القرآن الكريم، واللغة التي كان قدماء العرب يتخاطبون بها ويلقون بها خطبهم العادية، وينظمون بها أشعارهم المحفوظة المروية، وهي التي كتب بها العرب والمسلمون مؤلفاتهم في مختلف العلوم والفنون في مئات السنين، وهي التي يلقى بها خطباء مساجدنا خطبهم الدينية في زوال كل يوم جمعة ولا يكاد يوجد حتى من بين عوامنا من لا يفهمها كلا أو بعضا.
وبهذه اللغة تكتب الوثائق الشرعية، والرسائل الرسمية والعادية، وإن كان بعض الناس يلحنون فيها قليلا أو كثيرا، وهذه العربية الفصحى لم يبق لها الآن استعمال في الأوساط الشعبية والكلام العادي حتى في قلب جزيرة العرب، استغناء عنها باللغة العامية بقسميها المثقف والدارج.
والقسم الثاني: -العامية المثقفة -هي التي تتكلم بها الطبقات المثقفة والأشخاص الذين درسوا من العلوم قليلا أو كثيرا. ويطالعون الكتب ويقرأون الصحف العربية. وهذه اللغة يمكننا أن نسميها عامية المثقفين أو فصحى العوام، لأنها تحتوي على كثير من العبارات الفصيحة مع قليل من التحوير أو التغيير. وهي التي كنا نتفاهم بها مع مثقفي البلاد العربية من الذين اجتمعنا بهم في مختلف الأقطار، على ما بينهم من بعد في الديار، واختلاف في الألوان والأمصار.
والقسم الثالث: هو عامية الأميين ومن في حكمهم من الذين لا يقرأون ولا يطالعون الكتب والصحف. وهم سواد الأمة العربية وخصوصا في البوادي والقبائل التي لم يعمم فيها التعليم، وهي لغة وان كانت عريقة في العامية، إلا أن أصولها أو على الأقل جل أصولها لا يخرج عن الأصول العربية أو المعربة إلا نادرا جدا. وتطوان ونواحيها وأعني بنواحيها قبائلها الجبلية. لغتها الوحيدة هي العربية أصولا وفروعا. ولكنها بلهجة خاصة لا تخرج عن كونها إحدى اللهجات العربية، وشأنها في ذلك شأن باقي اللهجات الموجودة في أنحاء العالم العربي.
واللغة العامية -وخصوصا الدارج منها- فيها لهجات كثيرة تختلف باختلاف الأقطار، بل تجد في القطر العربي الواحد عدة لهجات قد تعد بالعشرات، تلك هي وضعية اللغة العربية الآن في العالم العربي الذي قمت شخصيا بزيارة جل أقطاره، وتحدثت مع كثير من علمائه وأدبائه، واتصلت بعامته ومختلف طبقاته.
نعم لقد مرت ظروف قام فيها بعض الشواذ في بعض الأقطار الشرقية، متأثرين بأوساطهم المحدودة، بالدعوة إلى الغاء العربية الفصحى وإحلال العامية محلها، ولكنها دعوة باءت بالفشل، لأنها من الجهل والغباوة بمكان. فالفصحى لها مكانتها ومواطنها، والعاميات المختلفة لها مواطنها وأوساطها. ولا تحل إحدى اللغتين محل الأخرى بحال.
ونحن لا نتأخر لحظة عن رفع أصواتنا، مؤكدين أنه مهما كانت الظروف والأحوال فإن العربية الفصحى هي اللغة التي لها قواعد محفوظة محدودة يعرفها الناس ويقفون عندها في مشارق الأرض ومغاربها، وهي اللغة التي يتحدث بها أهل العلم والأدب في مجالسهم العلمية والأدبية، وبها يؤلفون كتبهم وأبحاثهم في مختلف العلوم والفنون. وبها ينشرون الصحف السيارة فتنتشر في بقاع الأرض ويقرأها الملايين من الناس في جميع القارات ومختلف الأوساط، ولا يمكن لأية لهجة من اللهجات العامية أن تقوم مقامها ولو كانت في نظر أصحابها من الحلاوة والخفة بمكان.
 ونحن من أنصار العربية الفصحى والداعين لتعميمها ونشرها بكل ما يمكن من الوسائل لأنها هي العروة الوثقى التي تربطنا بعشرات الملايين من إخواننا العرب الأبرار، في مختلف البلاد والأقطار، كما تربطنا العقيدة الإسلامية الطاهرة بمئات الملايين من إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
نحب اللسان العربي المبين ونعتز به، لأنه هو الذي حفظ لنا -ومازال يحفظ لنا-كتاب ربنا، وسنة نبينا، وأصول شريعتنا، وأحكام ديننا وقواعد علومنا، وأسس ثقافتنا، وثمرات أفكار آبائنا وأجدادنا، ونتائج بحوث علمائنا وأدبائنا في ميادين المعارف والعلوم، ورياض الآداب والفنون.
ولكننا مع هذا وذاك، لا يمكننا أن نتجاهل الواقع. أو أن ننكر أن اللهجات العامية هي وحدها السائدة الآن في جميع الأوساط الشعبية بالعالم العربي شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وأن لهذه العربية لهجات لا يكاد عددها يحصر.
وقد تجولت في جل أنحاء العالم العربي، فزرت بنفسي من بلادنا المغربية جل مدنها وكثيرا من قبائلها. وزرت من بقية البلاد العربية أقطار الجزائر، وتونس، وليببا، ومصر، والحجاز، ونجد، والعراق، وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وتحدثت في تلك الأقطار مع مختلف الطبقات، وأنصت إلى مختلف اللهجات، فوجدت أن الأصل في الغالب واحد، إلا أن الأساليب تقترب من بعضها تارة وتبتعد تارة أخرى، ولكنها على تقاربها وتباعدها، فيها من المفردات والمعاني التي تستعمل فيها في مختلف تلك اللهجات، ما لو نقح وصقل وضم إلى ما في قواميسنا القديمة، لاجتمعت منه ثروة عظيمة تزداد بها لغتنا الفصحى غنى على غناها، وثراء فوق ثرائها.
وأرى أن من مهمة مجامعنا العلمية واللغوية، ولجاننا الثقافية في مختلف هيئاتنا العربية، أن تعمل في هذا السبيل بجد ونشاط وتستغل النهضات العلمية والأدبية القائمة الآن في أنحاء العالم العربي، كما تستغل وجود الأعضاء الذين فيها من مختلف البلاد العربية فتجمع ما في مختلف اللهجات، من الجمل والمفردات، وتدرس ذلك على الطريقة الحديثة، وتستخرج من الجميع ما ترى فيه فائدة، وتقرره تقريرا وتضمه ضما إلى معاجم الفصحى يستعمله كتابنا وأدباؤنا شرقا وغربا. وذلك طبعا بعد أن تحذف من تلك المعاجم ما فيها من حشو أو ماهو كالحشو الذي لم تبق له أية فائدة، وإنها لو فعلت، فستجد من الفوائد ما لم يخطر لها ببال حتى الآن.
لقد سررنا كثيرا عندما سمعنا عن مجمع اللغة  العربية الذي مركزه الرباط، أستغفر الله، بل بالقاهرة، ذلك المجمع الذي على الرغم من إعجابنا به واشتياقنا للاستفادة من أبحاثه وإنتاجه، لا يصلنا لا ما جل ولا ما قل من مطبوعاته المتكدسة في مخازنه، لقد سررنا عندما سمعنا أن فيه لجنة خاصة كلفت بالبحث في اللهجات العامية في مختلف الأقطار العربية.
وهي لجنة نؤمل أن يكون لها مسمى حقيقي، وأن تكون لجنة حية عاملة غير عاجزة كما هو الشأن في كثير من اللجان، نشيطة تستفيد وتفيد.
كما نتمنى أن يكون صدور هذه المجلة "اللسان العربي" فتحا جديدا لميدان تتبارى فيه أقلام علمائنا وأدبائنا للسير بلغتنا نحو الكمال والازدهار.
إننا نرى أن في مرونة اللسان العربي ما يجعله يتقبل بارتياح، كل ما يضاف إليه من المفردات والجمل، مما لا يخالف الأصول المقررة. والقواعد المحكمة المسطرة، فلذلك ندعو ونحض على جعل لغتنا تساير بقية اللغات الحية الناهضة في مختلف الميادين، وأن يدخل عليها ويضم إليها حتى من المفردات العامية ما يزيدها نموا واتساعا، وذلك زيادة على المصطلحات العلمية الحديثة التي لا غنى عنها ولا محيد منها.
ونحن بهذا لا ندعوا لإنزال اللغة العربية الفصحى من منزلتها السامية وجعلها خليطا من مختلف اللهجات العامية، بحيث يصير عملنا إنما هو إماتة للفصحى وإضافة لهجة عامية جديدة إلى ماهو موجود من اللهجات، كلا، وانما نقول ونتمسك بوجوب المحافظة الكاملة على ماهو مقرر معقول من الأصول والقواعد السليمة في علمي الصرف والنحو. وعلى ماهو محرر مقبول في علوم البلاغة التي هي المعاني والبيان والبديع، دون السماح بما يؤدي إلى اللحن أو مسخ الأسلوب العربي المتين والديباجة الرائعة والجمل والأساليب التي تمتاز بها لغتنا، ومع ذلك ندعو لصقل الألفاظ العربية العامية التي لا نجد من بين مفردات الفصحى وجملها مايدل على معانيها ويقوم مقامها. مثل نقل الألفاظ الاجنبية الجديدة التي تدل على المستحدثات العلمية والمصطلحات الاجتماعية، ووضع الجميع في قالب الفصحى وزنا وتنسيقا، بحيث تصير تلك الألفاظ معربة مفصحة مثل ما نقل قديما إلى العربية من اللغات الفارسية وغيرها. وإنا لنجد في القرآن نفسه وفي كلام نبينا العربي وكلام فصحاء العرب قديما وحديثا من ذلك المنقول الشيء الكثير.
نحن ندعو لأن يستغل ما في لغتنا الفصحى من مرونة فيدخل عليها ويضاف إليها كل ما يناسب عصرنا وتقدمه العلمي والأدبي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، من مفردات واصطلاحات وغير ذلك مما لا يضر بلغتنا بل يزيدها اتساعا ونماء، وبهجة وجمالا.
 والواقع الآن، أن اللهجات العربية العامية في مختلف أقطار العروبة يعد جلها من صميم اللسان العربي، وفي نظري أن البحثفي تلك اللهجات إنما هو من البحث في أصول لغتنا العربية وما طرأ عليها من تقلبات وأطوار، وما طعمت به أوما ينبغي أن تطعم به من مفردات ومعان وأفكار.
ونحن لا نرى أن الاقتباس والنقل من مختلف اللهجات إلى الفصحى ينقص من قدرها أو يؤثر في مكانتها الرفيعة التي تحتلها بين مختلف اللغات واللهجات، بل إنها بذلك تصير بين باقي اللهجات العربية كالجوهرة الثمينة في عقد اللؤلؤة والمرجان، أو الدرة اليتيمة في قلائد العقيان.
وبهذه المناسبة أذكر أنه قد مر علي وقت كنت فيه معجبا بالبحث في مختلف اللهجات، والمقارنة بين أساليبها ومعانيها، وجملها ومفرداتها. وما تجتمع فيه أو تختلف من الأصول، وما يلحق كلماتها من لحن أو تصحيف، أو حذف أو تحريف. وكنت أرى أن ذلك الموضوع لذيذ لطيف والبحث فيه ممتع طريف.
وكنت بالفعل منذ بضع عشرة سنة -وربما كان ذلك قبل تأسيس بعض المجامع العلمية- قد قمت بمحاولة فردية لتأليف كتاب عن اللغة العامية في المدينة التي ولدت بها. ونشأت وقضيت شبابي وكهولتي وبعض شيخوختي فيها، وهي مدينة تطوان التي هي قطعة من صميم البلاد العربية في قطر المغرب، وهذا التأليف بحتوي على ثلاثة أقسام:
الأول: في قواعد عامة تحاذي قواعد العربية الفصحى مما هو مقرر معروف في علمي النحو والتصريف.
الثاني: فقه هذه اللغة، أي تحديد المسميات ومعانيها وتبيين الألفاظ الخاصة التي تدل عليها وتستعمل في لهجة هذه المدينة من بين المترادفات المستعملة في الفصحى.
الثالث: معجم مرتب على الحروف الهجائية نذكر فيها المواد والمفردات وما تستعمل فيه من المعاني في هذه المدينة ونواحيها من القبائل الجبلية، وربما استشهدنا في ذلك ببعض الأمثال العامية المستعملة في هذه المدينة كما كان علماء الفصحى في القديم يستشهدون بالشعر العربي القديم، وقد نمزج ذلك ببعض الفوائد التي تصور بعض نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية في هذه الأنحاء، ومن هذا القسم الثالث يعرف ما لا يزال حتى الآن مستعملا في هذه النواحي من الألفاظ العربية، وما صار منها الآن في حيز الإهمال.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire