وأسماء هذه كثيرة، فلك أن تنعتها بالسوانح، ولك أن تخلع عليها من النعوت السوابح، وبين كل ذلك ما يخفى هنالك، إلا أن أهل عصرنا ممن شغف بحمل القلم وابتلي بمضغ الكلام يزعم لها زعمات، ويحسبها في حاق نفسه عزمات، ويرخي عنان اليراع فيسميها نظرات، وإذا طغى عدها تدبرات، ناسيا أو متناسيا أن كل ذلك يقصر عما زعمه هنالك.
وقد زعموا أن الجاحظ قال في توصيف شيخه وقريعه إبراهيم النظام : "وكان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسه على العارض والخاطر السابق الذي لا يوثق به، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه لكان أمره على الخلاص، ولكنه يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره كان ظنا".
القول في هذا الخبر :
سوء ظن هذا الرجل الملازم له أورده حالته هذه من الطعن في الشريعة قصد تنزيهها، والحط من بعض أصولها، وهذا يحمله عليه ما طبع عليه من الإساءة السالكة به في هذه المهالك، ولذا كثرت مخالفاته وعدت مهاتراته، فأضحى بين متنقص له ولأوابده، وبين عارف بفضله غير كاتم لعيبه وشينه، وكلاهما عند النظر من صنف الطاعن عليه، ثم أعقب هذه الإساءة بداهية يستخف بها عقول الناس ويستطيل عليهم بما هو قهر لهم، تلك هي جودة القياس، فإذا قلب الناظر فيها نظره -في غفلة عن أصلها- لاح له قوتها وبان له إتقانها، ولكن نظره هذا لا يجديه إلا إطراء واهتبالا؛ إذ هو منقطع عن أصله بائن منه. وبمثل هذا تجرأ حتى استولى على عقول الكثيرين؛ فحتى الجاحظ نفسه لم يسلم من داهيته، بل تابعه حتى كاد يلقي به في مهالك بدواته، فشايعه على القول بالصرفة حتى فزع الجاحظ من ذلك وفرق منه، لولا أن الله دله وأنهجه النهج السواء.
والقول في تصحيح القياس : هو في جلبه لشواهده وعواضده، وضرب الأمثلة الكثيرة ليدرج ظنه في صنف المقطوع به، حتى يظن السامع أن ذلك إنما توافر وتواتر لقوته وسلامته، ويا ليته إذ نصب له كل ذلك بقي على ذكر من مرتبته لما خشي منه، إذ مسلكه هذا يجعله يطعن فيما خالفه ويبالغ في ذلك، وإنما الأمر ظن، وهو لا يغني من الحق شيئا، وأمثلة هذا كثيرة؛ من أواخرها ذاك الزاعم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما تزوجت كان عمرها ثماني عشرة سنة خلافا لرواية البخاري الصحيحة المليحة، متكئا في ذلك على رواية لا تصح، تقممها من كتب التواريخ البين نهجها والمعروف أمرها، وإنما أوتي من سوء فهمه، والحمد لله أنه لم يوت جودة القياس، وإنما انحط عن مرتبة صاحبنا بدركة وهي لعمري كافية في الدلالة على مرتبته، وشايعه في دركة كان حقيق به أن لا يلتفت إليها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire