ونعني به الاهتمام بكل ما يتصل ببلاد الشرق من العالم العربى على امتداده إلى آخر ما يعرف باسم الشرق الأقصى ، فهو مصطلح واسع فضفاض وإن كنا فى عالمنا العربى نعطيه دلالة أضيق تعنى دراسات الأوربيين حول حضارة العالم العربى الإسلامى بصفة خاصة .
وحول الاستشراق الأوربى بهذا المفهوم دراسات كثيرة ، غير أننا سنختص بالحديث الاستشراق الإسبانى،أى ما أنتجه العلماء الذين كتبوا بالإسبانية حول ثقافتنا ومختلف مظاهر حضارتنا العربية الإسلامية. وفيما يتصل بالاستشراق بصفة عامة .
وقد كان للاستشراق الإسبانى خصوصية تميزه عن استشراق البلاد الأوربية الأخرى . وتتركز هذه الخصوصية فى نقاط أهمها: أن ميدانه الرئيسى الأول كان تاريخ الأندلس وحضارتها وذلك لأن إسبانيا ظلت خلال فترة طويلة من تاريخها (من القرن الثامن
الميلادى حتى القرن الخامس عشر على الأقل ) جزءاً من العالم العربى الإسلامى ، وهى ظاهرة انفردت بها هذه البلاد ، ولم تشاركها فيها إلا إيطاليا على نحو جزئى ، إذ إن أجزاء منها ( جزيرة صقلية وجنوبى شبه الجزيرة الإيطالية ) كانت أيضا تابعة للعالم العربى خلال ما يقرب من ثلاثة قرون . وترتب على ذلك أن الاستشراق الأوربى كان يدرس حضارة العرب والمسلمين من منطلق الفضول وحب الاستطلاع لحضارة غريبة عنه ، أما الاستشراق الإسبانى فإنه كان يرى فى دراسته للأندلس اهتماما بحقبة من تاريخ بلاده القومى، والتراث الأندلسى إنما هو تراث مشترك بين العالم العربى والحضارة الإسبانية نفسها . ومن ناحية أخرى فإن الاستشراق الأوربى كان فى أكثر أحواله ممهداً أو تابعاً للامتداد الاستعمارى للبلاد الأوربية ( ولا سيـما إنجلترا وفرنسـا ثم هولندا وبلجيكا والبرتغال )، فى آسيا وإفريقيا بما فيها العالم العربى والإسلامي. أما إسبانيا فلم تكن لها مستعمرات تذكر فى عالمنا فيما عدا الشريط الضيق المواجه لسواحلها فى شمالي المغرب . فالمطامع الاستعمارية لم يكن لها دور فى توجيه دراسات المستشرقين الإسبان إلا على نحو عابر طفيف . ومن الطريف أن نذكر حينما نتتبع تاريخ الاستشراق الإسبانى أن هذا الاستشراق كان هو السابق فى الظهور على كل ألوان الاستشراق الأوربى، وذلك لأنه منذ فتح العرب شبه جزيرة إيبريا ( إسبانيا والبرتغال ) حدث امتزاج كبير بين الفاتحين وأهل البلاد ، فتولد عن ذلك مجتمع مولد من كل العناصر التى كونته : عربية وبربرية وقوطية ولاتينية ، وهو مجتمع اتخذ فى غالبته من الإسلام دينا ومن العربية لغة . على أن هناك أقلية ظلت فى داخل هذا المجتمع محتفظة بديانتها المسيحية ، وهى أقلية أطلق عليها مصطلح المستعربين ، وذلك لأنهم تشبهوا بالعرب فى كل أوضاعهم وعاداتهم وكانوا يستخدمون العربية فى تعاملاتهم . وكان هؤلاء المستعربون هم نواة الاستشراق الإسباني قبل أن يعرف مصطلح الاستشراق بقرون طويلة . وقد أدى التفاعل بين الثقافتين العربية واللاتينية إلى أن تظهر فى مدينة طليطلة التى استولى عليها المسيحيون فى سنة 478 (1085 م. ) مدرسة تعرف بتراجمة طليطلة عملت على ترجمة العلوم العربية المختلفة من فلسفة وفلك ورياضيات وعلوم طبيعية إلى اللاتينية ، بل تمت أول ترجمة للقرآن الكريم فى هذه المدرسة وهى ترجمة ماركوس الطليطلى وتلتها الترجمة التى أوصى بعملها بيتر الجليل سنة 1143 م . فهذه الترجمات يمكن أن تعد النواة الأولى للاستشراق الأوربى فى القرن الثانى عشر الميلادى . وخلال القرن الثالث عشر اتسعت حركة الترجمة وشملت كل العلوم العربية وذلك فى ظل رعاية الملك الإسبانى ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم ، وهى حركة تختلف عن سابقتها فى أنها لم تكن من العربية إلى اللاتينية ، بل إلى اللاتيتية الدارجة التى أصبحت اللغة الإسبانية .
على أنه بعد هذا التفاعل الخصب الذى أصبح قاعدة للنهضة الفكرية والعلمية فى إسبانيا، بل فى القارة الأوربية كلها أتت فترة من القطيعة بين إسبانيا والثقافة العربية الإسلامية منذ أن أسقطت آخر دولة إسلامية فى الأندلس ( سنة 1492 ) إذ ساد إسبانيا المسيحية جو من التعصب الدينى حاولت فيه الكنيسة ومحاكم التفتيش محو كل أثر لحضارة العرب والإسلام التى كان لها الفضل فى نهضة هذه البلاد، وانتهى الأمر بطرد مئات الآلاف من الموريسكيين أى المتمسكين بإسلامهم من الشعب الأندلسى وإرغام من بقى منهم فى البلاد على التنصر . واستمرت هذه الحقبة المظلمة من تاريخ إسبانيا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر . وخلالها تجاهلت السلطات الحاكمة الماضى الأندلسى وعملت على طمس معالمه .
على أنه فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر وبحكم محاولة إسبانيا اللحاق بالركب الأوربى فى تيار ما يعرف باسم " التنوير " عاد الاهتمام بالدراسات العربية الإسلامية وبالماضى الأندلسى لإسبانيا ، فعمل الملك كارلوس الثالث على استقدام بعض الرهبان السوريين واللبنانيين من الموارنة لكى يدرسوا العربية ويهتموا بالمخطوطات العربية الموجودة فى مكتبة الإسكوريال . وكان أن اضطلع بمهمة فهرسة هذه الكتب الأب اللبنانى ميخائيل الغزيرى وأصدر هذه الفهرسة فى مجلدين كبيرين ( بين سنتى 1760و1770 ) وكان هذا العمل العلمى هو الشرارة التى انطلقت منها الدراسات العربية فى إسبانيا من جديد .
فكان من أول من استفادوا من هذه المخطوطات أحد الآباء اليسوعيين وهو خوان أندريس . وحدث أن أصدرت السلطات الإسبانية قراراً بطرد اليسوعيين من إسبانيا ، فلجأ خوان أندريس إلى إيطاليا، وهناك ألف كتابا جامعاً فى ثمانية مجلدات حول نشأة الآداب الأوربية وتطورها ( سنة 1799 ) . ، وفيه يشيد لأول مرة بالحضارة العربية الأندلسية ، بل ويصرح بأن كل ظاهرة أدبية أو فكرية فى أوربا تدين بنشأتها إلى العرب، وكان من جانب هذا الأب اليسوعى ضربًا من الإلهام إذ لم تسعفه على ذلك الدلائل المادية المستمدة من النصوص . ولذلك رفض الباحثون الأوربيون نتائج أبحاثه وقالوا إنها من نسج خياله .
وتلا ذلك كتاب أول تاريخ للأندلس قام به خوسيه أنتونيو كوندى الذى أصدر كتابه فى سنة 1820 وكان بدوره متعاطفا مع الحضارة الأندلسية ، ولكن كوندى وقع فى أخطاء كثيرة مرجعها إلى أن مصادره كانت كلها مخطوطة . وقد هاجمه المستشرق الهولندى رايتهارت دوزى مهاجمة عنيفة أدت إلى أن كتابه المذكور لم يلق قبولا من جانب العلماء الأوربين والإسبان .
ونلتقي بعد ذلك بشخصية تملأ القرن التاسع عشر ونعنى به باسكوال دى جايانجوس ( 1809 – 1897 ) وهو يعد رائد الاستشراق الإسباني الحديث ، وكان ينتمي إلى طائفة المستنيرين المتحررى الرأى ، وهذا ما اضطره إلى مغادرة بلاده التى كان يسيطر عليها المحافظون المتعصبون ، فقضى فى فرنسا وإنجلترا سنوات عديدة تعلم خلالها العربية ودرس العديد من المخطوطات المتصلة بالتاريخ الأندلسي، وكان من أجل أعماله ترجمته الإنجليزية لكتاب " نفح الطيب " وهو موسوعة أندلسية شاملة ، ثم الاهتمام بنشر بعض الموريسكين الذين كانوا يكتبون بالإسبانية ولكن بحروف عربية ، وغير ذلك من المخطوطات المهمة . على أن أهم أعماله كان رعاية المشتغلين بالدراسات العربية على اختلاف مجالات نشاطهم . فالتف حوله عدد كبير من تلاميذه كان لهم الفضل فى إرساء الدراسات الأندلسية على أساس راسخ متين .
فكان هؤلاء التلاميذ: إدواردو سافيدرا الذى درس الفتح العربى لإسبانيا وفرانسسكو سيمونيت اللغوى الذى درس لغة عرب الأندلس ولغة المسلمين ولغة المستعربين وتاريخهم ( ولو أن هذا الباحث كان شديد التعصب ضد العرب والإسلام ) ولا فونتى ألكتترا الذى حقق كثيراً من النقوش العربية على الآثار الإسبانية ونشر بعض النصوص العربية المهمة .
على أن أبرز هؤلاء التلاميذ هو فرانسسكو كوديرا السرقسطى(1836_ 1917م ) الذى كان من أجل أعماله نشر ما يسمى بالمكتبة الأندلسية فى عشـرة مجلدات : تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي، والصلة لابن شكوال والتكملة لابن الأبار، ومعجم شيوخ الصدقى للمؤلف نفسه وفهرسة ابن خير . وكان هذا العالم يقوم بصف حروف هذه الكتب العربية بنفسه يعاونه فى ذلك تلميذه خوليان ريبيرا ( إذ لم يكن فى إسبانيا آنذاك عمال مطابع يعرفون جمع الحروف العربية ) ، كما نشر مجموعات مهمة من الدراسات الأندلسية المختلفة أظهر فيها فضل عرب الأندلس على إسبانيا ، وكان ينادى بأنه يجب الاهتمام بتدريس العربية التى رأى أنها ألزم للمؤرخ الإسبانى من اللاتينية . ومما يستحق الذكر أن شاعرنا الكبير أحمد شوقى كان قد اختار منفاه إلى أسبانيا، وبها قضى خمس سنوات ( 1914 _ 1919 ) فى مدينة برشلونة القريبة من سرقسطة حيث كان كوديرا ينشر كتبه ودراساته . ومن أسف أنه لم يتم لقاء بين هذين العلمين الكبيرين وهو لقاء كان يمكن أن يخدم الدراسات الأندلسية ويغذى شاعرية أمير شعرائنا أحمد شوقى .
وقد تخرج على كوديرا عالمان كبيران : خوليان ريبيرا (1858_1934) وأسين بلاثيوس (1871_1944) الأول كان من أشد الناس حماسة لبيان فضل عرب الأندلس على ثقافة إسبانيا وأوربا . فمن ذلك دراستان أثار بهما ضجة فى أوساط الأوربيين، جميعا الأولى بحثه حول الشعر الغنائي ونشأته (سنة 1912) وفيه يقول إن كل شعر غنائى فى إسبانيا وفى القارة الأوربية ( شعر التروبادور ) يدين بمولده للنماذج العربية ولا سيما الموشحة الأندلسية ، والثانية دراسته للملاحم (1915) وفيها يصر أيضا على أن عرب الأندلس هم أول من أنشأوا شعراً ملحمى الطابع احتذته بعد ذلك الملاحم الإسبانية والفرنسية . ولهذا العالم دراسات أخرى حول مختلف ألوان الثقافة الأندلسية كان لها أثر عظيم فى إثارة الاهتمام بماضي الأندلس الحضارى . وأما تلميذ ريبيرا الآخر أسين بلاثيوس فقد كان من آباء الكنيسة وكان اهتمامه موجها للحياة الرومية للمسلمين،فأصدر دراسات عديدة حول الغزالى والمتصوفة الأندلسية ( ابن مسرة القرطبى وابن العريف وابن عباد الرندى ) . وفى سنة 1919 أصدر دراسته حول الكوميديا الإلهية لدانتى، وفيها دلَّل على أن دانتى استوحى عمله من قصة معراج الرسول (r)إلى السماء. وأنكر العلماء الإيطاليون نظريته، ولكن الأبحاث التالية والنصوص التى نشرت بعد وفاته أثبتت صحة آرائه حتى لم يعد أحد اليوم ينكرها. وكان من أهم أعمال أسين بلاثيوس دراسته لابن حزم وترجمته الكاملة لكتابه " الفِصَل " ثم كتابه عن ابن عربي وتصوفه.
ويأتى بعد ذلك شيخ الاستشراق الإسبانى وتلميذ ريبيرا وأسين وهو إميليو غرسيه غومس الذى يرجع له الفضل فى الترجمات الرائعة التى قام بها للشعر الأندلسي، ولكتاب طوق الحمامة لابن حزم ، ولنماذج من الأدب العربى الحديث والأيام لطه حسين، ويوميات نائب فى الأرياف لتوفيق الحكيم . وقد توفر فى السنوات الأخيرة من عمره لدراسة الموشحات والأزجال وتأثيرها فى الشعر الإسباني . هذا إلى دراسات أخرى كثيرة أخرجها خلال عمره الطويل (1905ـ1995) وعلى غرسية غومس تخرج عشرات من التلاميذ الإسبان والعرب ، وكان من بينهم من واصلوا عمله فى الدراسات الأندلسية وهم يملأون الآن جامعات إسبانيا المختلفة ، ومنهم من تخصص فى الأدب العربى الحديث، مثل بدرو مرتينث موتنابث الذى تكونت حوله مدرسة كبيرة تعمل على ترجمة الأدب العربى الحديث والمعاصر شعراً ومسرحاً وفنا قصصيا .
وهكذا نرى الاستشراق الإسبانى يجتاز اليوم أخصب مراحل حياته، لاسيما بعد أن اعترفت الأوساط الإسبانية كلها بما للعرب من فضل على إسبانيا، وبعد أن أصبحت الحقبة العربية الإسلامية تعد أكثر صفحات التاريخ الإسباني إشراقا،وأكثرها منجزات فى كل وجوه النشاط الحضاري.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire